أمنيتان صغيرتان ساذجتان تجمعان كل سكان السجون ومواطن المعتقلات أينما وجودوا ومهما كانت عقائدهم ومعتقداتهم، صغيرهم و كبيرهم، برهم وفاجرهم، عالمهم وجاهلهم.
صغيرتان هما وتافهتان في عيون الناس، لدرجة أنهم لم يسمعوا بهما وما خطرتا قبلا على قلب بشر، فهما في متناول أقدامهم وأظفارهم كل وقت وعند كل مشيئة: المشي في خط مستقيم ورؤية السماء عارية من البلاط «الشبك»!!
«الفورة» هي الساعة الوحيدة التي ننتظرها ثلاثا وعشرين ساعة، نقدس فيها كل حركة لعقرب الساعة ونكره حركته وكأنه إذ يقترب من نهايتها إنما يزحف خلف وجوهنا ليلدغنا ويفرغ فينا -من جديد- سمه الرطب المعتم الضيق.
وتخالنا ونحن ننتظر بجاهزية عالية وتغلب وتفلت منضدة داخل خلايانا المصفوفة، ونراقب من الطاقات حركة السوفير «السجان» وإذنه لنا للانطلاق من الأغلفة الإسمنتية وكأننا الفراخ في المفقسة تتحرك لتسقط عنها القشور التي أسرتها طويلا لتخرج إلى عالم أوسع قليلا.
إن كان قفصا سيمنع منها الطيران نحو الحرية، لكن القشور التي احتضنت تلك الفراخ إنما وهبت لها الحياة، بينما أعدت قشورنا لسلب الحياة منا....
أكتب هذه الكلمات وأنا أنتظر «الفورة» التي سيقودنا إليها سجاني -غفر الله لوالدي ولعن ملته- إلى فسحة ضيقة مقذوفة بين البنايات اللئيمة البشعة، التي تتطاول على السماء -كما حاول بانيها من قبل التطاول على السماء وأهل السماء ورب السماء- وتحول بغلظتها وخشونتها أن تخدش الغيوم وتخنق الريح وتكون عقبات وعوائق في مسار الطيور، وتحاول بقبحها وبذاءتها أن تتحدى شعاع الشمس وتلقي بظلها الثقيل فوق رؤوسنا وكأنها تهددنا باللحاق به أو الانطباق علينا.
بين هذه الوحوش الحجرية نسي بنات جهنم قليلا من المكان، لا شكل له ولا انتظام أقرب ما يكون شكله إلى المخلب ينهش من أعمارنا ومساحاتنا، هذا المكان صمم خصيصا كي يذكرنا بالشمس دون ان نراها وبالمساء دون ان نعرف شكله، في نكءٍ مقصود للجراح ثم فركها بملح.
في هذه «الفورة» وما زلت أجهل سبب التسمية ومن أطلقه وهل جاءت من المكان أم الزمان أم الحال- يتكرر المارش السرمدي والسير الدائري الرتيب.كم من الجموع سلكته من قبل؟ ولماذا ندور هكذا وكأننا مربوطون إلى رحا نديرها لنعصر فيها ذواتنا وحبات عيوننا!
ولكنا مع ذلك ندور عكس عقارب الساعة أي والله ربما لأننا مجبولون على التمرد والثورة. وربما لأننا نعاند عقارب الساعة كي نعوق تقدمها ونطيل عذابنا في محاولتنا والفاشلة في التسلق على حبل الهواء أو السقوط مع خيط النور إلى السماء، وما أدراك ما السماء؟
قطع قطع مصفوفة جنبا إلى جنب في انتظام بغيض ممتد إلى حدود الجدار، يا رب السماء ما خلقتها هكذا إنها اللا محدودة الواسعة فلماذا باتت أجزاء لا طبقات؟ ولماذا لم تعد تحلق فيها غير الظلال؟
هل هجرتها الطيور لأنها لا تمشي على بلاط؟ وهل خافت أن يكون الشبك الذي يحوم فوق رؤوسنا شبكة صياد تجرها إلى أقفاصنا وقصورنا؟ إي والله ألم تجعل فيها ليلا يعقب النهار؟ فلماذا نستثنى من سنة الكون هذه لماذا كلما غابت الشمس أشرقت شموس مصطنعة حاقدة لتحجب عنا حتى الليل؟
أي إلهي هل قامت الساعة فغارت النجوم وطمست، أم أنها غيبتها ظلمة أقوى من ظلمة الليل هي ظلمة الظالم؟ نحن الطائر الوحيد الذي يفقس كل يوم من جديد مثل الزهور تفتح أحضانها كل يوم بانتظار الندى والنور والفراش، ثم يدركها الليل فتأوي إليها الزنابير تدوي إليها بالآه والذكرى والاشتياق...
نحن الطائر الوحيد الذي يكره العودة لعشه لأنه ما بناه... أي إلهي تلك الأماني الصغيرة أفرشها تحت عرشك فامنحها من ريش ملائكتك جناحاً تطير به فوق السماء المبلطة، لتستأنف موسم هجرتها نحو الوطن.
www.ajloni.net
لاتستطيع وضع مواضيع جديدة في هذا المنتدى لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى لا تستطيع تعديل مواضيعك في هذا المنتدى لاتستطيع الغاء مواضيعك في هذا المنتدى لاتستطيع التصويت في هذا المنتدى تستطيع ارفاق ملف في هذا المنتدى تستطيع تنزيل ملفات في هذا المنتدى