" ولدت ُ في العاشر من مارس 1933 في بلدة (شبراخيت) إحدى مراكز محافظة البحيرة بجمهورية مصر العربية من أبوين ليسا من ذوي البسطة من المال ... وكان ترتيبي الثالث بين ستة من الأخوة ، ولدت سليما معافى ، من الأمراض وما إن بلغت السادسة من عمري حتى أصيبت عيناي برمد صديدي اختلفت بسببه إلى حلاق القرية ، وما زلت أذكر وأمي تحملني إلى محل الحلاق حيث كان يعبث بمروده في عيني مما أدى إلى ضياع العين اليسرى ، وبقيت اليمنى وبها ضعف كأنها تشكو ضياع أختها ، فضللت بها أصارع شدائد الحياة حيث ذهبت إلى جمعية تحفيظ القرآن الكريم لأعوض عن نور البصر بنور من كتاب الله الكريم ، وكان والي يعمل تاجرا في محل صغير ، وأشهد أنه لم يكن من الذين يجدون ما ينفقون ، بل كان ممن يلهث وراء الحصول على لقمة العيش بشق الأنفس حيث أعباء الحياة ثقل بها كاهله .
وقد كان جدي لأبي من الذين يحفظون القرآن لأبناء البلدة وتربى على يديه أناس تبوءوا مكانة كبيرة في علوم الإسلام ويوم مات جدي لم يترك درهما ولا دينارا وغنما ترك لنا تقوى الله ، فكانت الأسرة المكونة من الوالدين وستة من الأولاد وجدة لأبي تعيش قانعة راضية سعيدة ، إذ ليست السعادة في الانتشاء بالكؤوس المترعة أو الاستمتاع بالغيد الأماليد ، إنما السعادة في الرضى حيث يقول الصادق المعصوم - صلى الله عليه وسلم - " ارض َ بما قسم الله لك تكن أغنى الناس " .
صعود المنابر
يقول الشيخ كشك - رحمه الله - في ( قصة أيامي ) :
" كان عبد الملك بن مروان يقول : " إنما شيبنا صعود المنابر" ذلك لأن المنبر مسؤولية فخشبة المنبر لا تحتمل التمثيل لأن الواقف على درجة إنما يتأسى بسيد الخلق وحبيب الحق .
كان عمي الشيخ عبد الفتاح كشك مأذون البلد يقوم بإلقاء خطبة الجمعة في الجامع ( الوسطاني) وذات يوم وبعد ما بلغه أنني أقوم بإلقاء الدروس في المساجد كلفني إلقاء خطبة الجمعة في مسجده ، وكان هذا المسجد أكبر مساجد البلدة ويضم نوعيات مختلفة من البشر : ما بين تاجر وموظف ، وصانع ، واستعنت بالله وصعدت المنبر لأول مرة ودار موضوعها حول محاربة الفساد الإداري في البلدة ، وبدأت في الكلام عن تحريم الرشوة في نطاق قوله - صلى الله عليه وسلم - " لعن الله الراشي والمرتشي والرائش " وتناولت فيها ما يدور في المستشفى من إهمال للمرضى وسوء معاملتهم مما دفع مديرها إلى أن يتقدم بشكوى ضدي إلى مأمور المركز.
وبدأت المتاعب عندما هاجمت عقارب الحقد في قلوب الشانئين ، لولا انتهاء العطلة الصيفية وبدء العام الدراسي ، مما أسدل ستارا مؤقتا على تلك المآسي ، ودخلت العام الدراسي السنة الرابعة الابتدائية وهي شهادة وأعلنت جمعية الشبان المسلمين عن مسابقة في القرآن الكريم حفظا وتجويدا .
وعكفت على قراءة القرآن العظيم ودراسة أحكامه ودخلت المسابقة . ثم أقبلت إجازة نصف العام وكنت قد شعرت بعيني اليمنى تأخذ في الضعف وداخلني شعور رهيب بألم دفين وكأنني انظر من وراء الحجب لاستشف ماذا ينتظرني كمن يساق إلى الموت وهو ينظر ، فحياتي حياة علم ومدراسة وحاسة البصر بعد حاسة السمع في تحصيل العلم ...... وبينما علامات الاستفهام تتعاظم أمامي وتيدة كأنها الجبال الشوامخ إذ بوالدي يقطع عليّ هذا الصمت الرهيب ببشرى طيبة . قال لي : إن جمعية الشبان المسلمين أرسلت بطريق التلفون أنك قد حصلت على جائزة قدرها خمسة جنيهات !! .
وكان لهذا النبأ وقع طيب على نفسي التي هامت عليها الهموم كأنها وكأنهن حمامة وصقور...... وصحبني والدي إلى الإسكندرية ليصرف الجائزة مستعينا بها على بعض شدائد الأيام بعد ما عضه الدهر بنابه وأناخ عليه بكلكله .
وفاة الوالد
وفي صبيحة يوم السبت السادس من سبتمبر 1952 ولأمر ما انتقل الوالد من حجرة داخلية تطل على الطريق ، وكانت الأم مشغولة في هذا اليوم بصناعة الخبز في فرن البيت ، ويوم " الخبيز" كما يسمونه ثقيل على نفسي ، وكنت في هذا اليوم - أيام الطفولة- أغادر البيت فلا أعود إلا ليلا ، وعاودتني أيام الطفولة في يوم لم أستطع فيه حراكا حيث كنت رهين المحبسين .
كنت أجلس بجانب والدي ومرت جنازة في طريقها إلى المقابر وخلفها صبية صغار يبكون أباهم، كان ذلك في تمام العاشرة صباحا وإذ بوالدي يهمس في أذني قائلا : " إنني عما قليل سألحق بهذا الميت !! " قالها وقد ملك الإعياء عليه كله وكأنه يشعر بشبح الموت يرفرف من فوقه وقام لينام على السرير ، وفي الساعة الثانية نادى أخي الأصغر وكان يلعب حيث كان طفلا ، واستغاث به أن يذهب مسرعا إلى الطبيب ليدركه ، ولكن كان ملك الموت أسرع من الطبيب إليه ، ومازالت هذه الكلمة ترن في أذني وهو يقول لي : " اسأل الله أن يغفر لي " وسرعان ما غُسِّل وكُفِّن ووُضِع في سرير المنايا وودعته من البيت حيث سيق إلى مثواه الخير وبانفضاض ليلة المأتم انفض الأهل والأصحاب !!! .
الواقع المر
لم يكن هناك بد من مواجهة الواقع فقد انهدم ذلك الجدار الذي كان يمثل في حياتي حاجزا منيعا ضد عوامل التعرية ، وشعرت بالعواصف الهوج تثور من حولي ، وزمجرت الرياح القواصف تزعج حياتي ، فقد حضر إلينا أحد الأقرباء ، بل هو في مقام الوالد، إنه خالي وشقيق أمي الذي سلبها حقها في ميراث أبيها وقام بتوزيع الدوار علينا : أشار علي أخي الأكبر وكان يومها طالبا في السنة الثالثة من كلية الحقوق ، أشار عليه أن يترك التعليم ويعمل كاتبا في إحدى المحاكم . كما أشار عليّ وكنت يومها أحمل الشهادة الابتدائية الأزهرية ، أشار عليّ أن أعمل مؤذنا في أحد المساجد مقابل ثلاثة جنيهات ، كما أشار على أخي الذي كان يصغرني ، وكان يومها تلميذا في المدرسة الثانوية أن يعمل في محل البقالة الذي تركه والدي وكان ذلك المحل يومها خاويا على عروشه فلم يبق فيه ما يسد الرمق .
الالتحاق بالمعهد الديني
كان العام الدراسي الجديد قد أوشك أن يبدأ ، وفي خلوة بيني وبين شقيقي الأكبر أشار عليّ أن التحق بمعهد القاهرة الديني لأواصل مسيرة التعليم بالأزهر على أن يقوم بتحويل أوراقي من معهد الإسكندرية إلى هناك . وقد كان المعهد - قد احتسب العامين اللذين انقطعت فيهما عن التعليم للعلاج - قد احتسبهما رسوبا بحيث لم يبق َ لي سوى سنة استثنائية إذا رسبت فيها كان المصير فصلا من التعليم لا يقبل شفاعة الشافعين وتصورت نفسي كأني أضع قدمي على شفا جرف هار لو زلت لكانت الهاوية . وما أدراك ما هي !!!
وفي يوم من أيام أكتوبر 1952 وقبل أن تبرز الغزالة من خدرها وتطل علينا بقرنها والناس مازالوا في بيوتهم اصطحبني شقيقي إلى القطار ، وخرجت من بلدي أتسلل تسلل القطا مستخفيا أتجنب أسئلة الفضوليين ، وما أكثرها !! ، وما أسوأ وقعها على النفس التي تناوشتها السهام من كل جانب ، ومزقتها رياح الشدائد من كل اتجاه ، ووصلنا إلى مدينة دمنهور وتنفست الصعداء فقد جاوزت حدود البلد . وركبنا القطار إلى القاهرة حيث كان شقيقي قد استأجر غرفة يقيم بها وهو طالب ، وأخذ يسعى جديا في تحويل أوراقي قبل أن ينفرط عقد الأيام فتضيع السنة الاستثنائية .
ولن أنسى موقف هذا الشيخ الجليل الشيخ سيد الجراحي الذي كان يعمل أستاذا في كلية الشريعة والذي كانت تربطه بوالدي صداقة ، حيث كانا رفيقين في كُتّاب البلدة ، فإن الناس لما تنكروا لنا ، بل وتنكر لنا الأهل والأقرباء ، ظل هذا الشيخ وفيا فقد سعى سعيا حثيثا ، حتى قدم الأوراق إلى معهد القاهرة وإن كان ذلك قد تم بعد أن انصرم نصف العام الدراسي . ولكن كان لا بد مما ليس منه بد ، فكان لزاما عليّ أن أحرص على الحضور خاصة وان في السنة الأولى الثانوية علوما لم نكن قد درسناها في القسم الابتدائي مثل : الحديث الشريف والبلاغة والمنطق والعروض. فكيف أقرؤها من غير أن أفهمها ؟!
بين المسكن والمعهد
كانت الغرفة التي اقطنها أنا وشقيقي في حي شبين بدير الملاك ، وكان المعهد الذي أختلف إليه بحي الدراسة بالقرب من الأزهر ، وكان ذلك يمثل عبئا ثقيلا على نفسي ويكلف أخي الكثير من وقته وجهده . فكنا نركب من دير الملاك وننزل بالعتبة ثم نقطع شارع الزهر والسير فيه صعب لازدحامه وطوله . كنا نقطعه مشيا على الأقدام ، فأصل إلى قاعة الدرس وقد بلغ الإعياء مني مبلغه عندما اجمع أنفاسي المبعثرة ، ثم يأخذ أخي طريقه إلى كلية الحقوق بجامعة عين شمس على أن يعود إليّ بالمعهد ليصحبني إلى المسكن . وكثيرا ما كنت أنتظره طويلا حيث كان مرتبطا بمواعيد الدراسة . وكم كان يحز في نفسي أن ينصرف الطلاب فرحين بانقضاء يوم مليء بالعلوم ، فرحين لأنهم ذاهبون إلى مساكنهم ليأخذوا نصيبهم من الراحة ، وأقف أنا وحدي تمر عليّ اللحظات كأنها سلسلة من الجبال ، وتساورني الظنون وتشد الأوهام اذنيّ : لماذا تأخر أخي ؟ ... وهكذا إلى أن يقطع هذا السكون الرهيب صوت أخي يلقي عليّ السلام فينزل سلامه على قلبي كما تنزل قطرات الندى على الزهرة الظمأى فنزرع الطريق إيابا .
ورأيت بمشاعري أن أوفر بعض الراحة لأخي حتى يتمكن من مذاكرة دروسه ، فأشرت عليه أن يأخذ بيدي إلى الحافلة ويتركني وحدي على أن انزل محطة العتبة مستعينا بأحد الناس الذاهبين في طريق المعهد . واستعنت بالله فقد كنت املك عزيمة صلبة أواجه بها شدائد الأيام إذا عصفت ، وخطوبها إذا ادلهمت. فقد رأيته محفوفا بالأحراش والأشواك التي آوت إليها العقارب والحيات .إذا سلم السالك فيه من لدغة العقرب فقد لا يسلم من نهشة الثعبان! .
على أبواب الامتحان
ذكرت فيما سبق أن هذا العام الدراسي كان عاما استثنائيا الرسوب فيه يؤدي إلى فصلي من المعهد . وكان عاما مليئا بالمشاكل مفعما بالأحداث الأليمة ، وقد فاتني شطره ، ولكن بيقيني في الله وثقتي به قد عزمت على أن أخوض غمار هذه الشدائد حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا . وجرت عادة الطلاب أن ينصرفوا قبل الامتحان بشهرين يتفرغون فيهما استعدادا لدخول الامتحان ، وهنا لاحت أمامي أسئلة وعلامات استفهام كان لها وقع السهام على نفسي : من الذي سيذاكر لي هذه العلوم التي فاتتني ؟ وإذا لم أجد من يذاكر لي فبأي شيء أدخل الامتحان ؟! . وكنت احمل ذاكرتي أكثر مما تحتمل ، كنت أحرص على أن أظل ذاكرا لما يلقيه عليّ الأساتذة في قاعات الدرس حتى لا أنساه فاحتاج إلى من يقرؤه لي. ورأيت من الحكمة أن أتفق مع أحد الطلبة لنذاكر سويا ، والاتفاق مع أحد الطلبة يمثل مشكلة يعانيها المكفوفون فليس ذلك بالأمر السهل ..... مهما يكن من شيء فقد اتفقت مع أحد الطلبة على المذاكرة معا واتفقنا على ذلك وظننت انني قد اجتزت هذه العقبة وما أدراك ما العقبة؟ لقد ظل على عهده معي خمسة أيام بعدها افتقدته فلم أجده .
مفاجأة !
فوجت بعد خمسة أيام من مذاكرتي مع هذا الصديق بانقطاعه وقلت : لعله أمر عارض يعود بعده فنواصل ما بدأناه فإن الأمر جد وما هو بالهزل ، ولكن مرت الأيام واقتربت ساعة الامتحان دون أن يذاكر لي أحد ، ولم يعد ذلك المرافق إلا أنني فوجئت منه برسالة يقول فيها :" لقد سافرت إلى أهلي لأذاكر هناك " . وجاءت الرسالة متأخرة مما يدل على أن هناك ناسا لا يحترمون شعور الآخرين ولا يحسون بإحساساتهم ولا يقيمون للمسؤولية وزنا هؤلاء ظل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسبون صنعا . وأخذت حلقات السلسلة تضيق وكأنني بقول احد الحكماء :
رماني الدهر بالأرزاء حتى فـــؤادي في غشاء من نبال ِ
فكنــت إذا أصـابتني ســهام تكسرت النصال على النصال
وتابع الشيخ الجليل سرد الأحداث قائلا :
" ورأيتني أمام باب اللجنة وكان الامتحان للمكفوفين شفويا وكان في الغرفة لجنتان : إحداهما تشدد في الامتحان وتطوي رقاب الممتحنين ( بفتح الحاء) كما يطوي البراق معصرات الغمام والأخرى سهلة ميسورة ، فكان الطلبة يتحينون الفرصة التي تمكنهم من الامتحان أمام اللجنة التي ترفق بهم وفوجئت بمن يأخذ بيدي فيجلسني أمام اللجنة المتشددة وحاول أخي أن يخلصني من يد هذا الذي أخذني حتى يذهب بي إلى اللجنة الأخرى . ولكن دون جدوى !
مرت أمامي أشباح رهيبة قبل أن أجلس أمام اللجنة فقد فوجئت بهذا الطالب الذي غدر بالعهد وتركني ، فوجئت به يقول لي على باب اللجنة : " إن رسبت فسوف أقوم بالمذاكرة لك حتى لو نجحت أنا وسبقتك " . وانأ من الذين يتفاءلون بالكلمة الطيبة ولا أحب أن أسمع الكلمة التي تجرح المشاعر ويضيق صدري ولا ينطلق لساني إلا بقول : " إن الله معي " وقلت له : إن ولييّ الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين .
كما مرّ بي شيخ رهيب وانأ على وشك أن أتلقى سهام الأسئلة من اللجنة ، قلت في نفسي : لو لم أوفق في الامتحان أمام لجنة شديدة المراس فماذا يكون المصير ؟ وكيف يكون الحال أمام متاعب الأيام ومصاعبها ؟ ولكن سرعان مازال هذا الشبح أمام قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يقولنَّ أحدكم لو كان كذا لكان كذا ؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان "
أمام اللجنة
جرت على لساني آيات ودعوات قبل أن أتلقى سهام الأسئلة من لجنة سبقتها سمعتها في التشديد والصعوبة كنت أردد قوله تعالى " ( وقل ربي أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا) . وقوله جل شانه رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري ولحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي ) .
وجلست أمام اللجنة ورأيتني وأنا جالس على مفترق طرق فإما نجاح يفتح الباب أمام مستقبل زاهر ترتوي فيه النفس بماء المعارف ، وإما إخفاق يؤدي إلى سلسلة متصلة الحلقات من الشدائد لا يعلم إلا الله وحده مداها . وبينما تتقاذفني تلك الأمواج العاصفة إذ تنبهت على صوت أحد العضوين سألني عن اسمي . وقلت في نفسي : إن هذا الصوت ليس غريبا عليّ ورجعت القهقرى ثلاث سنوات وعلمت أنه صوت الأستاذ الفاضل الشيخ " أحمد الكومي " وهو رجل معروف بالعلم فهو ذو قدم راسخة فيه . ولن أكون مبالغا إذا ما قلت : إنه رجل يتفجر العلم من جوانبه ، وكان قد سبق أن تتلمذت عليه في القسم الابتدائي بمعهد الإسكندرية ، وجلست أمامه في لجان الامتحان ، وبحق كان صوته وهو الرجل الكفيف بمثابة الأمل الذي أضاء في ليل كموج البحر أرخى سدوله عليّ بأنواع الهموم . سألني الشيخ بصوت مليء بالرحمة : " بأي العلوم تحب أن نبدأ الامتحان ؟ " وفهمت من هذا السؤال أنه يريد أن اختار علما متمكنا فيه ليبعث في نفسي رباطة الجأش وفي قلبي برد اليقين . وطلبت أن أبدأ بعلم النحو لأنني والحمد لله أحبه ..... .
بدأنا بعلم النحو والرجل لا يريد أن يعرفني بنفسه وكأنه لا يعرفني ولا أعرفه حتى لا يشعر العضو الآخر بذلك فيشدد عليّ في أسئلته وأنا أعلم أن الشيخ الكومي رجل لماح الذكاء . وفي الإشارة ما يغني عن العبارة ، وفي التلميح ما يغني عن التصريح . ودخلت في نقاش عنيف مع العضو الآخر في مسألة من مسائل النحو .... وتدخل الشيخ الكومي وهو يعلم أنني كنت على حق ، تدخل بصوت خفيض وخاطبني بقوله : " إن فضيلة الأستاذ يريد أن يبصر بمسألة طال فيها الخلاف بين النحاة ، فكن على بينة من ذلك " . وعلمت أنه يريد أن ينهي هذا الجدال . ثم انتقلنا إلى المواد الأخرى وقلبناها على بساط البحث والأسئلة .
وأرد الشيخ أن يعلمني بنتيجة الامتحان وذلك بسؤالي في القرآن الكريم بالآيات المبشرة . أراد أن يسلط أضواء الأمل على قلبي فقال لي : " اقرأ من سورة الزمر : ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ) . وختم الأسئلة في القرآن الكريم بسورة الضحى ووقف بي عند قوله تعالى ولسوف يعطيك ربك فترضى ) .
وانصرفت وقلبي يلهج بالرضا ولساني يردد الحمد لله ، فقد كنت أشعر بنعمة لا تعادلها نعمة وهي أن الله تعالى سيجعلني من حماة الإسلام وحراس العقيدة ! .
في مساجد الجمعية الشرعية
وفي السنة الثالثة من القسم الثانوي حصل تحول في حياتي فقد أشار عليّ أحد الأصدقاء وهو الأخ عبد العزيز ندا ، وكان شابا مستقيم الخلق ، هادىء الطباع. أشار عليّ أن نلتحق سويا بالجمعية الشرعية لنقوم بخطبة الجمعة في مساجدها ووجدت هذه الفكرة صدى في نفسي وسألت : هل لذلك من شروط ؟ وكانت الإجابة من أحد العاملين بها أن الشروط سهلة منها : حفظ القرآن الكريم وبعض الأحاديث النبوية والقدرة على الخطابة . واصطحبني الأخ عبد العزيز بعدما كتب كل منا طلب الالتحاق . وذهبنا إلى مقر الجمعية الرئيسة بحي المغربلين . ذهبنا وكانت السماء تمطر ...... وقبلت طلبات الالتحاق وحدد لنا موعد للاختبار، وذهبنا لأداء الاختبار وكانت اللجنة مكونة من عضوين من علماء الجمعية وهما العلمان الجليلان : فضيلة الشيخ علي حسن حلوة، وفضيلة الشيخ أحمد عيسى عاشور . وسألني الشيخ : هل سبق لك أن خطبت الجمعة ؟ قلت : نعم في مساجد بلدتي . قال : كم كان سنك يومها ؟ . قلت : ستة عشر عاما ! . قال : تصور نفسك على المنبر وقد اجتمع المسلمون لصلاة الجمعة وقمت فيهم خطيبا ، فماذا عساك أن تقول ؟ . فحمدت الله وأثنيت عليه ونطقت بالشهادتين ، فانطلقت في الحديث وقد فتح الله لعيّ مغاليق المعاني وكان موضوع الخطبة التي ما زلت معتزا بها " دعوة المسلمين إلى وحدة الصف والهدف والأخوة في الله " .....
ما زلت أذكر وأنا ألقي خطبة الاختبار أمام العالمين الجليلين ، ما زلت أذكرهما وهما يبكيان بقلب مفعم بالخشوع والخشية أثناء سماعهما للخطبة مما جعل الشيخ علي حلوة مفتي الجمعية يأخذ بيدي إلى السكرتير ويقول له : أعطه أكبر المساجد ليقوم فيه بخطبة الجمعة وكن مطمئنا .
شدة أعقبها تيسير
لما أوشك العام الدراسي أن ينصرم ، وكنت مضطرا أن أبحث عمن يذاكر معي في القاهرة ، وذلك لالتزامي بأداء خطبة الجمعة في مساجد القاهرة ، جاءني طالب يسكن قريبا من مسكني وسألني هل ارتبطت بالمذاكرة مع أحد ؟ قلت له : لا . قال : هل لديك مانع أن نذاكر معا فنحن متجاوران في المسكن . قلت له : لا مانع . قلتها وانأ متخوف لأنني قد وضعته تحت التجربة يوما فلم يكن على مستوى المسؤولية ....اتفقت أنا وهو على أن نذاكر يوما بمسكننا في دير الملاك ويوما في مسكنه بمنشية الصدر . وبدأنا ننفذ الجدول الذي رسمناه ، فقال لي : إن لدي فكرة سأطرحها عليك . قلت : خيرا إن شاء الله . قال: نقسم المواد قسمين : نبدأ القسم الأول بمذاكرة المواد التي تحتاج إلى شرح مثل : التفسير والتوحيد والنحو والصرف والبلاغة . أما المواد التي تحتاج إلى قراءة فنؤخرها إلى حين الفراغ من تلك المواد ، وكان يقصد بهذه المواد الأخرى : الحديث والفقه والأدب والتاريخ ، وفهمت من عرضه هذا أن نبدأ بالمواد التي يحتاج فيها إلى شرح على أن يذاكر بعد ذلك المواد التي تحتاج إلى قراءته وحده وهذه المواد أحتاج إليها من حيث القراءة . لكنني غلبت حسن الظن بعدما دعوت الله قائلا : " اللهم أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك وفوضت أمري إليك " . وبدأنا في مذاكرة المواد التي تحتاج إلى شرح ، وفي الليلة التي فرغنا فيها من مذاكرتها وبينما هو يصحبني من بيته إلى بيتي، وعندما اقتربنا من البيت وبعد أن انقضى على مذاكرتنا شهر كامل ولم يبق على الامتحان سوى عشرين يوما ، فاجأني بقوله :" أحب أن أقول لك : أود أن أذاكر وحدي" .وحدث ما كنت أتوقعه ، لكن الذي زاد الجرح ألما أنني لما سألته : ولماذا قررت أن تذاكر وحدك أجاب بكل افتراء : لأنني لم أستفد من مذاكرتنا معا !! قلت له وأنا المغيظ المحنق : وكيف طوعت لك نفسك أن تضيع شهرا والامتحان على الأبواب ؟ وكيف تقول هذا أو تدعيه وأنا الذي كلما ذاكرنا درسا سألتك فيه ، فتأتي إجابتك سديدة وصحيحة؟! فلم يحر ِ جوابا . وعلمت أنه لا جدوى من الكلام ، فقلت : حسبي الله ونعم الوكيل ، والحق أنني لم أكن نادما على ما حدث على الرغم أنني بذلت معه أقصى طاقاتي في شرح المواد وكيف أندم على خير فعلته ؟ والصادق المعصوم يقول : " اصنع المعروف في أهله وفي غير أهله، فإن صادف أهله فهو أهله ،وإن لم يصادف أهله فأنت أهله "
أشهد أنني دخلت البيت حزينا أغدو ، وأروح كالطير يمشي من الألم وهو مذبوح ومضت هذه الليلة ثقيلة وئيدة .... وطلع النهار فجلست في فكر وحزن وسألتني أمي : ما يحزنك؟ وأخبرتها بما حدث ، فقالت لي بلسان اليقين وبمنطق الحق المبين : لا تحزن فإن الله سيزيل هذا الكرب، ودعت لي بدعوات صادفت ساعة الاستجابة ، وما هي إلا لحظات وطرق الباب طارق ، وقلت : " من ؟ . قال : أنا عبد المنعم ، وكأني عثرت على هدفي الذي كنت أنشده . إن عبد المنعم هذا كان زميلا لي وجلسنا سويا في لحظة صمت قطعه بسؤال : هل أنت مرتبط بأحد في المذاكرة ؟ . قلت : لا . قال : فهل لديك مانع من مذاكرتنا معا ؟ قلت : لا . قال : على بركة الله . وقطعنا الأيام العشرين نصل الليل بالناهر حتى أدينا ما علينا والله لا يضيع أجر من أحسن عملا ، وهكذا مرت الشدة عندما جاء التيسير .
يوم الامتحان
في صبيحة هذا اليوم صحبني شقيقي عبد الستار إلى لجنة الامتحان بالمعهد ، وكان الامتحان شفويا للمكفوفين ، وكانت اللجنة مكونة من أعضاء ليسوا من العاملين بمعهد القاهرة إنما جاءوا من معاهد أخرى لأنها شهادة ، وبدأنا الامتحان بالتفسير فكانت فاتحة خير ، فقد أعجب الشيوخ بإجابتي في تفسير كتاب الله حتى قام أحدهم يدعو أعضاء اللجان الأخرى ويقول لهم : تعالوا لتسمعوا العلم من منابعه الصافية ، كنت ساعتها قد أفاض الله عليّ بآيات من سورة الملك . .... وفرغت من الامتحان ، وكانت ساعة طيبة يوم أخبرني أخي بظهور النتيجة ، حيث حصلت على نسبة مئوية تقدر بتسعة وتسعين !!!! .
في الحلقات القادمة
سيداتي وسادتي وأخوتي سنواصل المسيرة مع فضيلة الشيخ كشك - طيب الله ثراه- وهو يسرد قصة أيامه في حلقات قادمة بإذن الله تعالى ، وستقرأون إنشاء الله فيما سيأتي :
1- الشيخ كشك في كلية أصول الدين
2- الترشيح للعمل بالأوقاف
3- سياحة في بيوت الله وقصص فضيلته مع المساجد التي عمل فيها
4- قصة زواج فضيلته
5- قصته - طيب الله ثراه - مع مخابرات عبد الناصر
6- قصته -طيب الله ثراه- مع السادات
والكثير الكثير من الأحداث التي تنشر لأول مرة عن هذا الرجل الاستثنائي
لاتستطيع وضع مواضيع جديدة في هذا المنتدى لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى لا تستطيع تعديل مواضيعك في هذا المنتدى لاتستطيع الغاء مواضيعك في هذا المنتدى لاتستطيع التصويت في هذا المنتدى تستطيع ارفاق ملف في هذا المنتدى تستطيع تنزيل ملفات في هذا المنتدى