حتى إنه لم يبكِ في تلك الساعة ، وقد فتحت الظلمة ستارها على غرفته ، تدور عيناه في سوادها ، وأغنية الوحشة تدور معهما . تسقط نجيمات ، وجوه ، نداءات من سماء وحيدة على أرضية عارية في ذلك الشتاء الجبلي ..
- دعنا نترك هذا المكان ..!
كانت زوجته تردد عليه ذلك بأستمرار . قبل أن يفقدها هي أيضاً ..!! توقفت عيناه مرة أخرى على جثة زوجته ، وهي تسأله بصوت ميت ، خفيض :
- إني أرتجف..!!
إنتبه لارتجاف جسدها المتقطع . إلتقط ما توفر لديه من أفرشه ودثرها بها .. تذكر قصة سقوطها من على سلم يأتيها في المنام .. حاول أن يلم أطراف الذين سقطوا قربها أيضاً ، وقد نفقوا قبل الأوان .. أنفاس طفله الوحيد ، المحنطة في زوايا الغرفة ، تتشكل أمامه كآثار متلاحقة لحياة قصيرة . اقترب قليلا من جثته ، لاحظ آثارأنياب قديمة على بطنه العاري وهو لم يتجاوز عامه الثاني . تأمل ملامحه وهي تبدو مثل أصوات لاتصل . فيما كان ثمة غياب يتساقط مع المطر في الخارج ..!! حاول التحرك بعيداً عن المشهد . وقف أمام النافذة الصغيرة المطلة على المدينة ، تحيطها المرتفعات الحجرية من كل اتجاه ، حتى لتبدو في ذلك الوقت بعيدة ، وقد غلفهما الضباب والغربة ..!! لمس بأ صبعه زجاج النافذة ، راسماً خطوطاً صاعدة إلى الأعلى وقطرات هابطة إلى حافتها المرمرية الحادة وهو يطيل النظر إلى السماء .. فجأة شجّ الفضاء صوت ، ربما أتاه من إله مجهول امتد إلى أقصى ذاكرته ، يصاحبه دوي أجراس صدئة ترن بنشاز حتى أن الصوت أربك الجثث المستقرة بعفوية ، وأقلق موتهم السريع :
- أنتَ من قتلهم ..!!
فجأ ة شاهد أمه ، راكعة أمام أسوار مدينته ، وقد أخذت تلطخ بعجين الحزن على حجارتها القاسية دون أن ينضب من قلبها أو قلب المدينة ..!! شعر بطفولته تغص بالنهر وتملآ الفراغات وجدران الأسوار وأرصفة المقاهي وواجهات السينمات وأزقة النجارين المزكومة برائحة الخشب المنثور . ومغنوّ سومر ينوحون في أبواق المقاهي على الزمان الذي لا يعود .. فتختلط أصواتهم بالنداء الإلهي الذي ظل يتكرر من حوله .. حرك يديه على طاولة تملأها الأخاديد ، كأ ن معركة وقعت عليها .
حّدق مرة أخرى في وجوه الأصدقاء المأخوذين بموتهم وهم يتحولون شيئاً فشيئاً إلى غياب يرسم كل الوقت .. كان الأخير قد توقف أو ربما هو كذلك قبل إعلان رحلته المبكرة .. أحس بتماثيلٍ آدمية ، مطمورة ، تخرج من تلك القرية النابتة على وجه أمه ، تناديه بعيون مفتوحة ..!! في تلك اللحظة ، إمتدت يداه إلى طفله كيما يتفحص آثار الأنياب على بطنه القطنية .. أخذته الغصّة حين أدرك موته المفاجيء . زحفت على أذنيه كلمات أبيه :
- على الأبناء أن يولدوا في مدن آبائهم ..!!
موتهم جميعاً قد فتح آبار الكلام الناشفة منذ مواسم الحروب ، كلام المساءات المدفونة تحت أسوار المدينة ويفجر ذاكرته على الحدود ، من دون أن يستطع جمع شتات الوقت الذي قد فات إلى الأبد :
- ألا تخشى لعنة الوحدة ، من أن تجعلك تفقدنا في رحلتك هذه ..؟؟
قالت له ذلك وهما يعبران حدود المدينة للمرة الأخيرة . لكنه لم يكن يهتم لذلك وسط غليان الكمد وشيوعه في مساءاتهما المتشابهه ..!!
لحظتها أراد أن يحدثها عن الإله الغريب الذي يناديه وعن الجمال رغم الخراب , وانتحار صديقه في لعبة المصائر , أو عن تأقلم الآخرين مع كائن الأحزان ..!!
استدار إلى جثة زوجته وهمس بشيءٍ عزيز عليهما .. دون جدوى ، لم تفتح عينيها الحجريتين . ساعتها بدأت تنزف غباراً كثيفاً ، أخذ يلتهم أطرافها وعنقها الأبيض الحزين دون أن تمتصه الشراشف والأفرشة الثقيلة ، حتى وصل إلى طفلهما الذي بدا مثل أثرٍ بالكاد يظهر .. نسي أنه كان ينتظر زمناً يمنحه وجوداً خارج هذا الخراب الذي بدأ يتساقط الآن بغزارة في الخارج كليل ، طويل ، موحش .
قاده صوت أمه الذي لم يخلص من التعب . كأن العالم صار يشبه نقطة سوداء تنثلم في فراغ أسود طويل .. شعر بحاجته لجميع الفتيات اللائي عرفهن واللائي بكين لأ جله ..!!
تفاقم شعوره بالذنب على رغبته في البكاء .. وهو يرى نسوة المدينة أخذن بالتقاطر في غروب مريض ، تحك قلوبهن الأسوار والتماثيل وجدران الأولياء ، ثم ينثرن صلاة نافقة ، حين أتى المساء سريعاً ، تاركاً المدينة لخلاص لن يتحقق :
- ربما لم أكن واقعياً أكثر مما يجب ..؟؟
قال ذلك وظل ينتظرالبكاء طويلا ، وهو يبحث عن زوجته في مواسم المدينة الجبلية ..!! حينها راح ينقذ ما يمكن إنقاذه من نزيف الغبارالمندفع نحو الجدران . أخرج بعض جثث أصدقائه المغمورة بالغبار وبعض الكتب ، ولوحات صديقه المنتحر دون أن يستطيع إنقاذ طفله وزوجته قبل أن ينظر للمرة الاخيرة في عيونهم وهي تنطفيء رويدا , رويدا بعد أن أفقدهما الغبار وجودهما المضيء ..!!!
* حيدرعودة : كاتب عراقي يعيش في أمريكا ، له مجموعة قصصية بعنوان "حواءات آدم" ، صادرة عن دار أزمنة ، الأردن 2000 - ويكتب أيضا في النقد التشكيلي.
رد: قصة :غياب كأثر
ارسل: الاربعاء يونيو 09, 2004 7:41 pm
سهــ الجنوب ــيل
شرس جديد
اشترك في: 04 يونيو 2004
مشاركات: 26
الجوائز: لا يوجد
]أبيات جميله وبها كل المعاني الجميله والأحاسيس الجميله وبصراحه شعر أدبي حلووو وأتمنى
لاتستطيع وضع مواضيع جديدة في هذا المنتدى لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى لا تستطيع تعديل مواضيعك في هذا المنتدى لاتستطيع الغاء مواضيعك في هذا المنتدى لاتستطيع التصويت في هذا المنتدى تستطيع ارفاق ملف في هذا المنتدى تستطيع تنزيل ملفات في هذا المنتدى