سلام الخلود مني عدد ما تشدو الورقاء باللحـن الحزين ، على صاحب راح وأخلى مكانه ، أمس الضحى شلوا النعش وأخفوا الغالي عن النظيرين ، نزعوا الصاحب مني وغدوا به على عجل سائرين ، فوضعوه في لحد ضيق مظلم و غطوه بغطاء من ألواح وطين ، وأهالوا عليه ترابا ثقيلا ثم غدوا عنه وحيداً عائدين .
فيا أنيسي ، من لي بعدك مؤنس ، ويا صاحبي ، من لي بعدك على الدنيا معين ، صبية تناثروا حولي باكيين ، صغار لا يملكون حولا ، ولا هم لعوني على البلية بقادرين .
يا صاحبي ، أظلمت الدنيا في عز ضحاها ، وضاق البيت رغم اتساعه ، وامتلأ الصدر في حزنا ، واغرورقت العينان دموعا ، وشدت بقربي الورقاء باللحن الحزين .
طائر الورقاء يملي علي أحزانه ، وأنا أملي الأحزان على قلب تفطر بُـطَـيْـنُـه من بكائي والنحيب ، فلا طائر الورقاء بمنهٍ صياحه ، ولا أنا بمنتهية فِـيَّ أحزان ، يطول الحزن فِـيَّ كلما طال الزمان بي بعد رحيلك ، وكلما ذكرت منك مواقف الحب والتقدير .
أتاني الليل ، والليل بعدك طويل ثقيل ، وزارني الطيف ، والطيف منك جميل ، أطل عليَّ الطيف في صور متعددة ، فذاك طيفك ليلة زواج ، وذاك طيفك وأنت خليل ، وثالث الصور تمثلت بوجهك الحبيب الضحـوك الغالي ، ورابعها رسمت وجهك وأنت مع المرض في صراع مرير ، وخاتمة الصور أظهرت قماشا أبيض غطى وجهك معلنا الفراق والرحيل .
ويقرب الليل من نهايته ، فأبصر وسادة ملأتها بالدموع ، وأبصر فِـيَّ وجدانا تمزق من الأحزان ، وألمس في الصغار عجزا وهم ينظرون إلي حيارى ، يتساءلون بألم ، ثم لبكائي يخرون باكيين ، إلا صغيرهم فقد سلا ودله ، ثم نام لأنه للحزن غير فهيم ، ولما حدث غير فطين .
يا صاحبي ، عهدا على نفسي أقطعه ، ووعدا في سلوكي أرعاه ، أن لا آتي في فراشك بعدك لي بديلا ، فأنت الزوج الأوحد في حياتي الدنيوية ، فلن يكون بعدك أحد ، كما لم يكن قبلك أحد . فيا صاحبي ، وصية منك أحفظها لأنها غالية ، وصية تمثلت في وصل أمك وأبيك ، والإحسان إليهما ، وأخرى طلبت مني فيها أن أحسن إلى الجار ليذكرك بالحسنى حسنى وخيرا .
أيا صاحبي ، وأبا عيالي ، سأبقى أذكرك حتى يجف لساني ، وأصبح مثلك تحت الثرى من الهالكين ، سأبقى أذكرك ما دام قلبي ينبض حياة إلا إذا غيب عقلي ووعي ، سأبقى أذكر منك حسن عشرتك معي ، وطباعك التي عرفتها فيك ، وسأذكر خلقا حسنا تزينت به ، وسأبقى على الوفاء الذي علمتني إياه وهو سيد طبعك ، فما عرفتك غدارا ، ولا ماكرا ، ولا خائنا ، وما عهدت فيك يدا بالجور والطغيان مددتها ، وسأبقى مع نفسي عهدا أن لا بديل .
فسلامي إليك كلما شدا طير الورقاء باللحـن الحزين ، وكلما نعى بحزنه حبيبا ، أو وليدا ، أو صاحبة أو صاحبا ، سلامي إليك أرسله حبا متواصلا لما كان عليه حين كنت بجانبي ، فهو حب موصول غير منقطع ، أحببتك أنت كاملا في حياتك معي ، وأحببتك اليوم بعد رحيلك عني سجايا وخصالا ، ذهبت منك الروح ، وسيفنى الجسد ، ولكنك ستبقى بمعانيك الطيبة تلازمني ما حييت .
سلام الخلود إليك مني وأنا في الـدُّنَـا وأنت في الخلد والـدُّنَـا معنا ، ما غبت عني بالذكريات ، ولا غبت عني جميلا وإحسانا ، فإن أحسن إلي أحد قلت هو أنت ، لأنك بالإحسان اقترنت ، والإحسان ثوبا لبست .
فيا طائر الورقاء الحزين ، أعلم أنك حزنا شدوت ، ولكن أخبرني ، أَوليداً فقدت ، أم أُمَّـاً ، أم أنك مثلي فقدت صاحبا عزيزا ، بالله عليك يا طائر الورقاء ، كف عن الأحزان ، فلعلك إن كففت شدواً حزنا علي خففت .
أيا طائر الورقاء ، بالذي خلقك أناشدك أنك كلما شدوت حزنا ، احمل مني سلاما وطوف به بين قبور منثورة في الـدُّنَـا على الأرض ، حتى إذا بلغت قبر الصاحب العزيز ، أبلغه سلامي ، واشدِ على قبره مني حبا خالدا أبد الزمان .
لاتستطيع وضع مواضيع جديدة في هذا المنتدى لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى لا تستطيع تعديل مواضيعك في هذا المنتدى لاتستطيع الغاء مواضيعك في هذا المنتدى لاتستطيع التصويت في هذا المنتدى تستطيع ارفاق ملف في هذا المنتدى تستطيع تنزيل ملفات في هذا المنتدى