عاد هركول بوارو العربي إلى مكتبه متعباً وسأل سكرتيرته فاطمة إذا كان هناك من سأل عنه في غيابه فنفت ذلك. وتصفح الرسائل والبرقيات الواردة إليه بعدم اكتراث وألقاها جانباً لخلوها من أي شيء هام ثم تمدد على أريكته المعهودة وألقى قدميه بحذائهما على الصحف والمجلات الأسبوعية والشهرية الصادرة ذلك الصباح وراح ينفث دخان سيجارته في الهواء وهو يحلم بالقضية الكبرى التي تهز الرأي العام وتنقذه من خموله الجنائي الذي طال أمده، وتعيد له شهرته الآتية واسمه المدوي في عالم الإجرام والمجرمين كألمع مخبر خاص.
الصوت: سيدي أنا مفتش الأمن في قطار الشرق البطيء، وقد وجدنا أحد الركاب مقتولاً هذا الصباح وأريد مساعدتك للقبض على الجاني.
بوارو: ومن هو المجني عليه؟
الصوت: مجهول الهوية.
بوارو: ألم تعثروا في أمتعته أو في جيوبه على أي شيء يثبت شخصيته؟
الصوت: لم نجد شيئاً ذا قيمة سوى خريطة مهترئة لفلسطين.
بوارو: وبقية الركاب؟
الصوت: معظمهم عرب.
بوارو: وماذا يفعلون الآن؟
الصوت: يؤنبونه.
بوارو: أنا قادم فوراً، لا تدع أحداً يغادر القطار.
وبسبب تجمع معظم المسافرين فوق جثة المجني عليه وتدافعهم لتقبيله ولثم جبينه وذرف الدموع على صدره لم يستطع هركول بوارو العربي لفت الأنظار إلى قدومه، كما أن أوامره بالتزام الصمت والهدوء لمباشرة مهمته ضاعت سدى وسط صيحات الثأر وحالات الإغماء، وتمزيق الثياب، ودق الصدور بالقبضتين، وتعداد مآثر الفقيد، مثل يا عمود البيت. يا جسر المحبة. يا جسر العودة. يا زهرة شبابنا. يا معيل كفاحنا.
ولذلك استغل هذه الفرصة وانتحى بالمفتش جانباً.
بوارو: في أي مقعد كان يجلس؟
المفتش: في الحقيقة لم يكن له مقعد محدد. كان يجلس تارة هنا وتارة هناك، إلى أن انتهى به المطاف إلى الممر حيث يرقد الآن رقدته الأبدية. إنه يعوق الحركة في حياته وفي موته كما ترى.
بوارو: عجيب. لا بصمات، لا آثار عنف. لا خصلة شعر. حتى ولا رماد سيجارة.
راكب: نحن لا ندخن. الدخان يضر بالصحة.
بوارو: ومن ذاك الشخص الممدد إلى جانب المجني عليه؟
المفتش: لا أعرف، ولكنه يقول أنه يريد أن يدفن معه.
بوارو: انهض يا هذا وعد إلى مقعدك.
الراكب: مستحيل، أريد أن أدفن معه. هاتوا رفشاً ومجرفة. لا أستطيع الحياة من بعده.
بوارو: أين كنت عندما اكتشفت الجثة؟
الراكب: كنت في مقعدي أستمع إلى إذاعة فلسطين. آه يا حبيبتي يا فلسطين!
بوارو: وأنت؟
راكب آخر: كنت أقرأ ديوان "عاشق من فلسطين" لمحمود درويش.
بوارو: وأنت؟
راكب آخر: كنت أقرأ ديوان "الولد الفلسطيني" لأحمد دحبور.
بوارو: وأنت؟
راكب آخر: كنت أطالع تحقيقاً صحفياً عن ممارسات إسرائيل العنصرية داخل الأراضي العربية المحتلة. آه كم سيتحمل هذا الشعب ويتحمل!
بوارو: وأنت؟
راكب آخر: كنت أستمع إلى أغنية "عائدون" لفيروز.
بوارو: وأنت، متى نمت ليلة الحادث؟
راكب آخر: في موعد إطفاء الأنوار، فأنا نظامي جداً وفوراً رحت أحلم بليمون يافا وبرتقال حيفا.
بوارو: خذوا أحلامه للتحليل.
المفتش: أمرك. سيدي.
بوارو: وأنت متى نمت ليلة الحادثة؟
المفتش: سيدي هذا يساري لا ينام ولا يدع أحداً ينام.
بوارو: ومن ذلك الذي يقف وحيداً في آخر القطار ويحك ظهره بالجدران والمساند؟
المفتش: إنه جربان سياسياً. لا يقترب من أحدث ولا أحد يقترب منه.
بوارو: وذلك الممتقع الوجه والمتهالك على الأرض؟
المفتش: مغمى عليه.
بوارو: شمموه بصلاً.
المفتش: شممناه بصلاً. تراباً، برتقالاً ولك ما نعرف من منعشات دون جدوى. ولكن عندما شممه أحد زملائه دفتر شيكات صحا.
راكب آخر: انهمرت الدموع من عيني ولم تتوقف حتى الآن ولن تتوقف حتى يكتشف المجرم الأثيم وينال قصاصه العادل.
بوارو: ماذا تعشيت في مثل هذا اليوم قبل 25 عاماً؟
الراكب: وما علاقة هذا بالحادث؟
بوارو: أن أسأل وأنت تجيب.
الراكب: لم نكن نتعشى في تلك الأيام.
بوارو: لماذا؟
الراكب: كانت أياماً عصيبة يا سيدي.
بوارو: ماذا كنت تعمل؟
الراكب: موظفاً بسيطاً في أحد المصارف.
بوارو: والآن؟
الراكب: عندي مصارف.
بوارو: وكيف وصلت إلى ما أنت عليه؟
الراكب: من دعاء الوالدة.
بوارو: وأنت ما هي مهنتك؟
راكب آخر: محسوبك موظف بسيط في القضايا العامة.
بوارو: هل هذه أول مرة تسافر فيها بالقطار؟
الراكب: وآخر مرة. ولن أسافر بعد الآن إلا بطائرتي الخاصة.
بوارو: عندك طائرة خاصة، من أين لك المال لتشتري طائرة خاصة؟
الراكب: من راتبي يا سيدي.
بوارو: من أين أتيت بالمال؟
الراكب: في الحقيقة، في الواقع، في هذه الظروف العصيبة..
بوارو: كفى، كفى، كيف كانت علاقتكم بالمجني عليه؟
الراكب: أخوية يا سيدي. كانت أحاديثنا أخوية وجلساتنا أخوية وسهراتنا أخوية، حتى أننا كنا جميعاً نقرأ رواية "الأخوة كارامازوف".
***
وبعد أن جمع ما حصل عليه من معلومات اختلى إلى نفسه في مكتب المفتش وراح ينتقل بتحليلاته من متاهة إلى متاهة. وفجأة لمعت في ذهنه فكرة وقف لها شعر رأسه: لقد تذكر قصة "جريمة في قطار الشرق السريع" لأغاتا كريستي، التي كان فيها عدد الطعنات في جسد الضحية مطابقاً لعدد الركاب تماماً، وفي الحال خرج من المقصورة وأعاد التجربة. وعندما وجد أن عدد ركاب القطار مساوٍ لعدد الطعنات في جسد المجني عليه صعق وانطلق هارباً من القطار وهو يصرخ: لن أصدق عيني. لن أصدق أذني. لن أذهب إلى عملي بعد الآن. لن أعود إلى بيتي. لن أسدد ديوني. لن أرسل أطفالي إلى الحضانة. ليخرج أبو سلمى وغيره من شيوخ العودة من قبورهم وليذهبوا إلى الحضانة.
محمد الماغوط
ارسل: الاربعاء نوفمبر 23, 2005 1:59 pm
مـجـروح
شرس مشرف سابق
اشترك في: 18 يونيو 2005
مشاركات: 5182
المكان: llـــiiiـــR قـــيـــh الجوائز: لا يوجد
الف الف شكر على الموضوع الرائع
ارسل: الاربعاء نوفمبر 23, 2005 2:40 pm
بنت السعوديه
شرس مشارك
اشترك في: 26 اكتوبر 2005
مشاركات: 334
المكان: عند شواطئ الأمل الجوائز: لا يوجد
يسلموووووو
خيوووووو
:
وان شاء الله لي
عوده لاكمال الموضوع ..
لاتستطيع وضع مواضيع جديدة في هذا المنتدى لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى لا تستطيع تعديل مواضيعك في هذا المنتدى لاتستطيع الغاء مواضيعك في هذا المنتدى لاتستطيع التصويت في هذا المنتدى تستطيع ارفاق ملف في هذا المنتدى تستطيع تنزيل ملفات في هذا المنتدى