أَمرُنا عجيب ! فنحن نستخدم كلمة (العيب) على نطاق واسع، ونتداولها بكثافة، ونعطي لوقعها أهمية عظيمة، فكم أحجمنا عن فعل أو أتينا آخر، وكم بذلنا من جهد ووقت ومال، وكم ضحينا بأمور، أو سكتنا على أحوال، لمجرد تجنب هذا الشيء المدعو (عيباً) . لكننا في المقابل، لا نكاد نجد للفظ (العيب) هذا تعريفاً أو معنىً محدداً، أو مفهوماً واضحاً، أو دلالة قاطعة. إننا نستخدم هذا اللفظ مثلاً في توجيهنا لأبنائنا الصغار، كأنه عصا نؤشر لهم بها لكي ينتهوا عن قول أو فعل، فيكفي أن ننهرهم إذا أتوا سلوكاً لا يواتينا بأن نقول لهم: هذا (عيب)، ولو أن أحد هؤلاء الأبناء الصغار تجرّأ فسألنا : لكن ما هو العيب ؟ ربما وقفنا مشدوهين، وحِرْنا مليّاً في الإجابة .
حتى أن التعريف الشعبي لكلمة العيب، من خلال الأمثال الشائعة والمتوارثة، مبهم، يُعرّفُ الماء بعد الجهد بالماء، فهو يقول لك: (ما عيبْ إلا العيبْ ..!) دون أن يُخبركَ ما هو هذا العيب الذي ليس ثمة سواه أو بعده أو قبله عيب، بحيث يتركُكَ دون أن تفهم معنى العيب في اللفظ الأول ولا معناه في اللفظ الثاني. وإذا رجعت إلى قواميس اللغة العربية وجدت تعريفها لا يزيد في مستواه (العلمي) عن ذلك التعريف الشعبي، فهي تقول (عاب الشيء : جعله ذا عيب، فهو عائب، والمفعول معيب ..!) دون أن تفقه منها معنى عاب ولا عائب ولا معيب ! أما المعاجم المتخصصة في الفلسفة أو علم الاجتماع - وضمن ما أتيح لي الاطلاع عليه - فلم أجد فيها إشارة لهذا اللفظ ذي الدلالة المهمة المؤثرة، والمبهمة الغامضة، في آن واحد معاً .
ومما يدلّ على أن مفهوم (العيب) غير واضح وغير محدد رغم سعة انتشاره وشدة تأثيره، أننا كثيراً ما نشير إلى وقائع أو حالات نؤكد عدم خضوعها لذلك المفهوم، على نحو يومىء إلى أنها أُدرِجَتْ في نطاق مفهوم العيب دون أن تكون منه، نتيجة عدم وضوح دلالة اللفظ أصلاً . ومن ذلك ما كان يكرره أهلونا في البيت ومعلمونا في المدرسة، حين يقولون لنا: (الفقر مِشْ عيب) وهم محقون في ذلك، وإن كانوا بهذا القول إنما يواسوننا ويواسون أنفسهم، ويشيرون دون قصد إلى أن مفهوم العيب مختلط في أذهان الناس. ومن ذلك أيضاً حين يحاول البعض أن يُبرر فعلاً لامَهُ الناس عليه، أو أنّبه عليه جزء خفي من لا شعوره، كأن يتزوج ثلاثاً غير زوجته الأولى، فيقول (الزواج لا عيب ولا حرام) معلناً بذلك أن ثمة مقياسان لا ثالث لهما لتقييم كل شيء، وهما العيب والحرام، وأن فعله لا يقع في نطاقهما وإن اختلط الأمر على اللائمين.
إن اعتماد ثقافة المجتمع على توارث الأفكار، وتناقلها، وتقبل الجاهز منها دون نقاش، إضافة إلى ضحالة الفكر، وتدني مستوى الاهتمام بالعلوم والدراسات الإنسانية، وإتباع أنماط التفكير المغلوط التي تقود إلى العمومية والضبابية وعدم التحديد، كل ذلك يترك المصطلحات والمفاهيم والتعبيرات والألفاظ سائبة ومائعة ومتداخلة، فلا إطار يَضمُّها، ولا عناصر تجمعها، ولا خصائص تميّزها. بحيث تجعلك لا تعرف ما يدخل فيها ولا ما يخرج عنها. وهذا ما ينطبق على المعنى المحيّر لكلمة (العيب) تلك.
نحن نستخدم كلمة (العيب) و(العيوب) في المجال النظري لنشير إلى ما في موضوعٍ ما أو رأي أو فكرة أو عمل من نقص وسلبيات. ويبدو أن الكلمة كانت تستخدم في التراث بمعنى النقائص في شخصية المرء وسلوكه وحياته، ومن ذلك قول الإمام علي كرم الله وجهه (أكبرُ العيبِ أن تعيب ما فيك مثله) أو قول الشاعر (عين الرضا عن كل عيبٍ كليلةٌ ... ) . لكن معنى العيب الحالي المتداول في المجتمع توسّع وأخذ أبعاداً ذات دلالات اجتماعية وأخلاقية، وربما دلالات ذات علاقة بالشرف والكرامة .
وأعتقد أن (تجنب العيب) ليس قيمة من القيم الاجتماعية بحد ذاته، لكنه يتبع عادة لقيمة من تلك القيم ويتأثر بوجودها أو غيابها. أعني أنه إذا كان الإنتاج مثلاً ليس قيمة لدى مجتمع معين فستغدو المهن والأعمال اليدوية عيبا. وإذا كانت المظاهر قيمة لدى ذلك المجتمع فستكون البساطة في مستوى المعيشة عيباً. وإذا لم تكن الحرية الشخصية قيمة، فسوف تجد أن أي منهج تسير عليه يُعدُّ عيباً إذا كان يخالف مألوف الناس، لكن لقاء ذلك ستجد أن كثيراً من السلوكات التي تنافي قيم الجمال والحق والخير لا تسمى عيباً، وأن السلوك الذي ينافي قيم المواطنة الصالحة أو قيمة الإنتاج أو الجودة لا يسمى عيباً كذلك .
وزبدةُ القول فيما تقدم، أنه إذا كان مفهوم العيب بكل هذا الاتساع والمدى، وكان نطاقه شاملاً لكل هذه المعاني والجوانب من الحياة، فلماذا لا ندرج تحته سلوكات اجتماعية متعددة تعود بالضرر الفعلي على المجتمع، لماذا لا نقول مثلاً أن سلوك التاجر الذي يضع على سلعته ثمناً ثم يساومه المشتري فيغير ذلك الثمن المعلن يعد عيباً، لأنه قصد أن يخدع الآخر بالسعر الأعلى ابتداءً. ولماذا لا نقول أن إطلاق العيارات النارية في الأفراح مثلاً عيب، وإطلاق أبواق السيارات في أي موقع أو موضع عيب، وأن يتأخر المرء عن موعده عيب، وأن يُضيع وقت العمل عيب، وأن يأخذ مكان غيره بالواسطة عيب، وأن يعتمد في رزقه على التكسب والتطفل دون جهد عيب، وأن لا يتقن العامل عمله عيب، وأن يتخلّف عن مكان العمل لمجرد تساقط حباتٍ من الثلج عيب ... وهكذا، فأنا من جانبي لم أسمع يوماً أحداً يسمي شيئاً من ذلك كله عيباً .