أنا أفكر أنا موجود مقولة قالها قديما الفيلسوف الفرنسي (ديكارت) ونحن نقولها حديثا أنا أحب أنا موجود. وكما قال (شكسبير) قديما على لسان (هاملت): « أكون أو لا أكون تلك هي المشكلة»، ونحن نقولها حديثا: أحب - بكسر الحاء - أو أحب - بفتح الحاء- تلك هي المشكلة، والمشكلة الكبرى هي في ثقافتنا القائمة على الثلاثي: حرام. ممنوع. مستحيل. ويردد ذلك السوريون بالعامية فيقولون: ما في.. ممنوع.. ما بصير. ومحرم على المواطن البحث في ثلاث: السياسة والدين والجنس، ومجتمعنا مشدود بين ثلاث أقطاب: مواطن أعمى ومثقفا أخرس وحاكم أطرش. صم بكم عمي فهم لا يفقهون. وكما جاء في الإنجيل "أعمى يقود أعمى الاثنان يقعان في الحفرة".
الحب ظاهرة كونية، وحقيقة علمية، وغريزة أساسية مثل الخوف والغضب والفرح.إن أعظم عاطفة في الوجود هي الحب. الحب هو بداية الأشياء ونهايتها. و الحب مبرر الحياة وأصل الحياة وهو من أقوى العواطف وأكثرها تساميا بالإنسان وتهذيبا لمعدنه.ومن محضن الحب يولد الإنسان. وبه ينمو ويترعرع. الحب صحة والكراهية مرض.وأعظم كارثة في الحياة هي انطفاء الحب فيموت الإنسان قبل الموت. والحب يبدأ بإرادة القرب والمودة، ثم يقوى فيصير محبة، ثم يصير هوى، ثم يصير عشقاً ثم يصير تتيماً ثم يزيد التتيم فيصير ولهاً. والوله يتحول إلى عذاب مقيم، فإما اللقيا أو الموت المجازي حين تفقد طعمها الأشياء، فالعاشق دون لقاء كالسمك دون ماء، فإما أن يسبح السمك العاشق في بحار الوصل، أو يودع الدنيا.ولكن الحب الصحي هو الذي يمنح الإنسان الهدوء ويهبه النشوة والاسترخاء وشعور الأمن والسعادة وتحقق الذات. وهو ذلك الترياق الذي يعيد الحيوية إلى مفاصل الجسم كي يعيش مستقبلا فيض الحياة التي لا تنتهي. وجنة الخلد وعدها المتقون أبدا. « إن الحب هو شمس الطبيعة الثانية. يفجر ينبوعا من الفضائل حينما يشرق. وكما تعكس الشمس على العالم أشعتها الدافئة وتنمي الفواكه والأزهار، فإن الحب حينما يشع جيدا في داخل الإنسان
يولد فيه كل الثمار المشرقة:الشجاعة والفضيلة والأفكار السامية. إنه تصميم شجاع، وحديث إلهي.آه... إنه الفردوس والجنة في الأرض» على حد تعبير الشاعر(جورج شابمان) في مسرحية ( All fools ).
وقد اقترن الحب بالجنس، ونحن نرى أن لكل منهما عالمه الخاص، وفي الأصل يربط الناس بين الزواج والحب وهذا نصف الحقيقة.ورغم أن الحب يقود في النهاية إلى ممارسة الجنس، لكنه لا يعني أنهما نفس الشيء. الحب أعظم من الجنس وممارسته، ولكن أحد تجلياته جنسية. قد يكون الجنس بهيمياً دون حب، ويصبح إنسانياً عندما يمتزج بعصارة الحب، فهذا مشعر التفريق بين ممارسة الحب عند الحيوان والإنسان.وعندما تتصاعد دفعة الحب عند الإنسان لا يشعر بقمته وتحقيق هدوء النفس ما لم يمتزج بالطرف الآخر. وتفضي العلاقة الجنسية إلى الإنجاب وحفظ النوع وتكرار الذات في نسخة أصلية لا تقبل التزوير كشهادة توثيق دامغة على عمق هذه العلاقة. وتعمق العلاقة لاحقا بترعرع الأطفال كثمرة حب وبناء شبكة علاقات اجتماعية.. الحب إذاً نماء وثروة جديدة وتجدد في الحياة. "وجعل بينكم مودة ورحمة" و ولكن هناك زيجات كثيرة انطفأ فيها الحب بعد الزواج بأمد قصير وتحولت الحياة إلى بؤس روتيني. لأن الحب الحقيقي: قوة تعلق، وانجذاب ساحر، وتضحية إلى حد الموت، ومعنى في الحياة يحيل الحياة إلى جنات ذات بهجة، ونمو لا يعرف التوقف، وأحيانا يموت صاحبه كلفا وعشقا وهياما بالهدف.
ومن روائع ما تركه لنا التراث الإسلامي في الأندلس مذكرات ابن حزم الأندلسي الذي دشن اتجاها عقلانيا عرف بالمدرسة الظاهرية، إلا أنه في كتابه (طوق الحمامة في الألفة والإيلاف) يتحدث بكل صراحة عن الحب والجنس، في أسلوب فلسفي وتحليل نفساني رائع ومثير، فقام بدراسة الحب كظاهرة علمية. فهو يعرف هذه الظاهرة فيقول: الحب أوله هزل وآخره جد. دقت معانيه لجلالها عن الوصف فلا تدرك حقيقته إلا بالمعاناة. وهو ليس بمنكر في الديانة ولا محظور في الشريعة. وأما ماهيته فهو: اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في الخليقة في أصل عناصرها. فالله جعل زوجها منها ليسكن إليها. فجعل علة السكون أنها منه. ولو كانت علة الحب حسن الصورة لوجب ألا يستحسن الأنقص. ولو كان للموافقة في الأخلاق لما أحب المرء من لا يوافقه. والمحبة ضروب: فأفضلها في الله حسب ابن حزم. ويرى ابن حزم أن الحب له علامات يقفوها الفطن ويهتدي إليها الذكي فأولها إدمان النظر ومنها الإقبال بالحديث ومنها الإسراع بالسير نحو المكان الذي فيه المحبوب. ومنها بهت يقع وروعة تبدو على المحب عند رؤية من يحب فجأة وطلوعه بغتة. ومنها أن يجود المرء ببذل كل ما كان عليه ممتنعاً. فكم بخيل جاد. وقطوب تطلق. وجبان تشجع. وغليظ الطبع تطرف. وجاهل تأدب. وهذه العلامات هي قبل استعار نار الحب وتأجج حريقه. فإذا تمكن أصبح شيئاً آخر. ومن أعجب ما ذكر أن الحب قد يقع في النوم أو رؤية صورة من لا يعرف أو العشق دون رؤية والأذن تعشق قبل العين أحياناً. وهناك حسب خبرة ابن حزم من أحب من نظرة واحدة. ويتكلم عن أثر الحب على النفوس أن له حكماً ماضياً. سلطاناً قاضياً. وأمراً لا يخالف. وحدا لا يعصى. فيحل المبرم ويحلل الجامد ويخل الثابت ويحل الممنوع.
وللكاتب (خالص جلبي ) كلام جميل في وصف الحب حيث يقول: « الحب يفيض من النفس بعد معالجة التشظي الداخلي، وتحقيق وحدة النفس داخليا بتفجير حب الذات أولا بالصلح الداخلي، من خلال رد الاعتبار للذات واحترامها والاعتراف بها. ولا يمكن أن نحب الآخرين قبل أن نحب أنفسنا. ولا يمكن أن نحترم الآخرين ما لم نحترم أنفسنا فنعترف بذواتنا ونتأملها في ضوء جديد. وهي في علم النفس الولادة الجديدة ».
وأجمل ما كتب ( جلال الدين الرومي) هو في الحب والعاطفة فقد دعا إلى الحب دعوة سافرة وذكر عجائبه في بسط وتفصيل فقال: « إن الحب يحول المر حلوا، والتراب تبرا، والكدر صفاءا، والألم شفاء،والسجن روضة، والسقم نعمة، والقهر نعمة، وهو الذي يلين الحديد ويذيب الحجر، ويبعث الميت، وينفخ فيه الحياة، ويسود العبد. إن جميع المرضى يتمنون البرء من سقمهم إلا أن مرضى الحب يستزيدون المرض ويحبون أن يضاعف في ألمهم وحنينهم، لم أر شرابا أحلى من هذا السم، ولم أر صحة أفضل من هذه العلة.إنها علة ولكنها علة تخلص من كل علة فإذا أصيب بها إنسان لم يصب بمرض قط إنها صحة الروح بل روح الصحة يتمنى أصحاب النعيم أن يشتروها بنعيمهم ورخائهم.إن هذا الحب البريء السامي يصل بالإنسان إلى حيث لا توصله إلا الطاعات والمجاهدات لم أر طاعة أفضل من هذا الإثم عند من يسميه إثما إن الأعوام التي تنقضي بغيره لا تساوي ساعة من ساعات الحب».هذا، وبحر الحياة هائج ليس السباحة فيه بالخطب اليسير فخير للإنسان أن يأوي إلى سفينة مأمونة من الغرق وهي سفينة الإيمان والحب، يقول:« لقد رأينا كثيرا ممن يحسنون السباحة قد غرقوا في هذا البحر اللجي ولكنا ما رأينا سفينة الإيمان والحب تغرق».والحب شعلة إذا التهبت أحرقت كل ما سواه فلا كبر ولاجبن ولا خوف ولا حزن ولا حسد ولا بخل ولا عيب من العيوب النفسية.ويمسك مولانا بعد هذا النفس الطويل في مدح الحب ووصفه، ويقول:« إن حكاية الحب لا تنتهي وتفنى الدنيا ولاتنقضي عجائبه لان الدنيا لها نهاية وغاية والحب وصف من لايفنى ولا يموت».
ومن روائع الشعر الإنجليزي ما قاله الشاعر (شيلي) في (فلسفة الحب):
انظري إلى النافورة وهي تختلط بمياه النهر
والأنهار وهي تمتزج بالمحيطات
ورياح السماء تمتزج أبدا
بعواطف عذبة
لا يوجد في العالم شيء وحيد
فالقانون الإلهي يجعل الأشياء كلها
تلتقي وتتمازج في روح واحدة
فلماذا لا تلتقي أنت بي
انظري إلى الأرض وهي تقبل السماء في ارتفاعها
والأمواج وهي تعانق بعضها بعضا
لن تغفر الحياة لزهرة
أن تزدري أخاها
وهاهو ضوء الشمس يصافح الأرض
وأشعة القمر تقبل مياه البحر
ماذا تعني كل هذه الأعمال الحلوة
إذا لم تقبليني أنت
لاتستطيع وضع مواضيع جديدة في هذا المنتدى لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى لا تستطيع تعديل مواضيعك في هذا المنتدى لاتستطيع الغاء مواضيعك في هذا المنتدى لاتستطيع التصويت في هذا المنتدى تستطيع ارفاق ملف في هذا المنتدى تستطيع تنزيل ملفات في هذا المنتدى